رفقة رعد
تتقمصنا حيناً بضع أبتسامات وحركات جلدية يكاد من يرانا يحسبنا مجانين، هو لا يدرك اننا نمر بحالة عقلية تقمصية ، تتلبسنا فيها بيئة الذاكرة أو الحدث الذي تذكرناه ، فربما نبتسم وربما نبكي و ربما كلاهما سويه ، فنسرق من لحظاتنا لحظات ماضية تمسح بوجودها زمن كاد ان يرحل عنا، لإن الحياة كما يقولون دائماً عبارة عن سكة قطار تأخذنا مسافاتها إلى محطات متنوعة في اختباراتها ووجهاتها دون ان تدرك ما لك وما عليك، فقط هي متعة التجربة ولذة الترحال، نحو ادراك المجهول الذي يعترينا القلق منه، والذي طالما ما تحول إلى خوف يهزنا و يعكر صفو انيتنا. أو هي كما يقول نيتشه: (( يدحض حاضري ما مضى من ايامي)).
لكن وسط كل هذا تجد ان الحياة بكل غزارتها تستبقي لنا ما نبني له في ذاكرتنا صرحاً نعود لزيارته بين الحين والحين، فيأخذنا الكلام والشعور والمصاحبة إلى أرضية نابتة بكل ما يخالجنا وقتها.
بعض هذه الشخصيات لا يمكن أن يعيدهم الزمن علينا مرتين، تترك أثراً فينا وترحل، تتخذ من ذاكرتنا عرشاً نستطيب لسلطته، فالذاكرة هي المعلم الاول هي استتراتيجية الفعل بذاته.
هذه الشخصيات التي عاشت زمنها طولاً وعرضاً وامتداداً وسقت بنضوجها عقولنا دون ان تدري، وان كانت لقاءاتنا بهم لا تحصى بالساعات بل بدقائق معدودة. نراقب فيها تفاصيل هم لا يؤاخذون عليها لكن نحن من نؤاخذ اذا لم نحفظها، كصوت رخيم ووقور أو ملامح عشبية ناطقة تخالها تنمو بين انظارنا، أو هدوء جاثم ورائه الف حكاية، غريب هذا السكون الذي يعصف بخبراتهم فينا، غريب ما نراه فيهم وغريب هو طعم التجربة معهم .
فحينما لامس طعم تمرها ذاكرتي ، استحضرتها، هي امرأة لا تشابه كل النساء، امرأة عجوز لكن ما زالت ملامحها الصبيانية موجودة لا يمكن للناظر ان تخفى عليه، ذات صوت تراثي، لا أذكر انها زارتنا الى البيت الا مرتين فقط، تحمل في كل مرة صحن من أجود أنواع التمر، تستقطعه من نخلاتها السبع المباركة في منزلها الكبير، وحين الحصاد يشبع الجيران حتى أصحاب المحلات القريبة من حينا تشبع، كانت تأتي علينا متأرجحه بخطوات زورقية مع صحنها الجميل، فلم تكن تزور احد في الحي غيرنا، لذلك أسعفني الحظ برؤيتها، تتخذ لها وسط منزلنا ركناً تجلس فيه وتباشر بالحكايات وأباشر أنا بدوري المراقبة. راقبت صوتها وحركاتها وعطرها ورداءها، رسمت شيلتها السوداء الستان، ومشبكها الذهبي في رأسها، مسوغات ذهبية في معصمها كأنها حرزها لا تخلعها ابداً تتخذ من اللحم حيزها ، لم أشارك بإي كلمة معها كنت صغيرة، لكن غصت بكل تفاصيلها.
تلك المرأة التي فاجأتني بإبتسامتها رغم فقدانها أبنها وزوجها ، التعبير عندها مرتبط بالكرامة وعزة النفس لذلك تتحايل بالصحون والأغذية لتقل أنا احبكم ، بشوشة راقية لكنها كتومة الاحساس، شاهدتها أخر مرة في منزلنا تتحدث مع امي ، حضورها وصحنها المملوء بالتمر اختصر كل الكلمات.
حين الوداع كنت استمتع بسيري معها إلى بابنا الخارجي لتوديعها، وددت لو اختبرت السير معها وحدي، لربما ستوجه لي الكلام، لربما ستذكر شيء خاص فيّ أنا كحكمة أو نصيحة أو اشادة لا اعلم ، وددت فقط لو اوصلتها إلى منزلها، كانت دخيل رائع في حياتي. بعد هذه الزيارة بمدة قصيرة رحلت وتركتني اتذكرها رغم رحيلها منذ 10 سنوات أو اكثر.
مؤكد أن لا أحد يستطعم هذه الشخصيات الا القلائل لكن لربما ما اكتبه اليوم يجعل البعض يستذكر أو يقرأ وجوه كل من يقابله مستقبلاً، يجعله حذر في انتقاء الملامح واستبقاء الذكريات، فبين اسنان مشط جدتي قصص قصيرة و مواعظ، وخلف كل اشعث شعر و ملطخ ملابس الف رواية، وخلف الاهداب سكنة الأزقة حكايات نقرأها ونستقرأها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق